الهجرة- من حدث تاريخي إلى مفهوم متجدد للإصلاح الذاتي والمجتمعي
المؤلف: نجيب يماني09.01.2025

منذ أن وطئ الإنسان الأول هذه الأرض، ظلّت البشرية في سعي دؤوب لترتيب الأيام وحساب السنين، وهو مسعى لازم تطور المجتمعات وتشكّل الحضارات. ومع مرور الزمن، تفرّقت الأمم واعتمدت تقاويم خاصة بها، بعضها استند إلى الأحداث الجسام، وبعضها الآخر استُلهم من الطبيعة وتقلباتها.
العرب قبل الهجرة لم يتفقوا على معيار زمني موحد يؤرخون به أحداثهم، ورغم اهتمامهم بتسمية الشهور، إلا أنهم لم يولوا السنوات نفس القدر من العناية، وهو أمر يدعو إلى التأمل والاستغراب. ألَم تشهد الجزيرة العربية أحداثًا جسيمة كان من الأجدر تدوينها وفقًا لتاريخ مُحكم؟ فلماذا ظلت معلقة في حسابات تقديرية تعتمد على تقاويم الأمم الأخرى، دون أن يبادر العقل العربي إلى ابتكار تاريخ خاص به؟
هذا التساؤل يمتد إلى ما بعد البعثة النبوية، حيث لم يصاحبها تاريخ عربي مُحكم، فميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على سبيل المثال، يُشار إليه بـ "عام الفيل"، ويُرجع تاريخيًا إلى ميلاد المسيح عليه السلام، ورغم تحديد يوم وشهر الميلاد بدقة (12 ربيع الأول)، إلا أن حساب العام يعتمد على التقويم الغريغوري (24 سبتمبر 662م). ألم يكن من الضروري تحديد حدث فارق يمثل نقطة انطلاق لحساب أعوام العرب والمسلمين؟
الإجابة عن هذا السؤال المقلق لم تتبلور إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حادثة كشفت عن الحاجة الماسة إلى تحديد العام عند تدوين الأحداث. عندما وصل خطاب إلى أبي موسى الأشعري مؤرخًا في شعبان دون تحديد السنة، استفسر الأشعري من الخليفة، مبينًا أن الرسائل المؤرخة بالأشهر فقط قد تحدث خلطًا كبيرًا، فجمع عمر الصحابة للتشاور في هذا الأمر، واقترح البعض أن يكون مولد الرسول بداية للتأريخ، بينما عارضه آخرون واقترحوا يوم وفاته، واقترح فريق ثالث اعتماد التقويم الفارسي أو الروماني، إلاّ أن الرأي استقر في النهاية على اعتماد الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة المنورة كنقطة انطلاق للتاريخ الإسلامي، وذلك لما قاله عمر بن الخطاب: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها».
يكمن هنا جوهر عظمة اتخاذ الهجرة النبوية منطلقًا للتاريخ، فهي تمثل حدثًا محوريًا غير مجرى التاريخ.
إن الهجرة ليست مجرد حدث تاريخي مضى، بل هي رمز للتغيير المستمر والبحث الدائم عن الحق. إنها تذكرنا بأن قمع الفكر ومحاولة الحَجْر عليه ليسا بالأمر الجديد، فالهجرة جاءت نتيجة لظروف قمع حرية التعبير، وتعذيب المؤمنين، والخوف من التغيير، والتشبث بالقديم دون دليل، فكانت الهجرة هي السبيل الوحيد لنجاة الفكرة. لقد اتخذ المؤمنون الصوت مركبًا، وصنعت الفكرة جناحًا، واقترحت النفوس العظيمة الهجرة حلًا للخلاص من الحَجْر والاعتساف، فكانت مكاسب الهجرة أعظم بكثير من خسائر الحَجْر.
هذا المعنى يوضح لنا أن الحَجْر لا يجدي نفعًا، وأن الحرية المنفلتة لا تساعد الفكرة على الانتشار والقبول.
للهجرة في عصرنا الحاضر معنى أعمق، فهي دعوة إلى البحث عن الذات الحقيقية التي ضاعت في زحمة الحياة المادية، إنها هجرة نحو التأمل، والمحاسبة الذاتية، والتدقيق في الأمور، فكم من هجرة يحتاجها الإنسان اليوم ليعبر الواقع المعيش ويصل إلى فهم أعمق للعالم، دون الوقوع في فخ الاستبداد أو الانزلاق في التحرر العبثي؟ إنها معادلة تحتاج إلى حكمة نبي، وصبر عابد، وبصيرة عالم.
يجب على الدعاة اليوم أن يدركوا أن الهجرة المادية لم تعد مجدية في عالم بات قرية صغيرة، فعليهم تطوير مفهوم الهجرة، واستيعاب معانيها، وإضفاء معنى جديد عليها يتناسب مع واقعنا المعاصر، والاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة لنشر الدعوة دون الحاجة إلى الانتقال الفعلي.
أرى أيضًا ضرورة استحداث رمز "ق. هـ" (قبل الهجرة) لتوثيق الأحداث التاريخية المهمة التي سبقت الهجرة النبوية، على غرار الرمز "ق. م" (قبل الميلاد) المستخدم في التقويم الميلادي.
وكل عام وأنتم بألف خير.
العرب قبل الهجرة لم يتفقوا على معيار زمني موحد يؤرخون به أحداثهم، ورغم اهتمامهم بتسمية الشهور، إلا أنهم لم يولوا السنوات نفس القدر من العناية، وهو أمر يدعو إلى التأمل والاستغراب. ألَم تشهد الجزيرة العربية أحداثًا جسيمة كان من الأجدر تدوينها وفقًا لتاريخ مُحكم؟ فلماذا ظلت معلقة في حسابات تقديرية تعتمد على تقاويم الأمم الأخرى، دون أن يبادر العقل العربي إلى ابتكار تاريخ خاص به؟
هذا التساؤل يمتد إلى ما بعد البعثة النبوية، حيث لم يصاحبها تاريخ عربي مُحكم، فميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على سبيل المثال، يُشار إليه بـ "عام الفيل"، ويُرجع تاريخيًا إلى ميلاد المسيح عليه السلام، ورغم تحديد يوم وشهر الميلاد بدقة (12 ربيع الأول)، إلا أن حساب العام يعتمد على التقويم الغريغوري (24 سبتمبر 662م). ألم يكن من الضروري تحديد حدث فارق يمثل نقطة انطلاق لحساب أعوام العرب والمسلمين؟
الإجابة عن هذا السؤال المقلق لم تتبلور إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حادثة كشفت عن الحاجة الماسة إلى تحديد العام عند تدوين الأحداث. عندما وصل خطاب إلى أبي موسى الأشعري مؤرخًا في شعبان دون تحديد السنة، استفسر الأشعري من الخليفة، مبينًا أن الرسائل المؤرخة بالأشهر فقط قد تحدث خلطًا كبيرًا، فجمع عمر الصحابة للتشاور في هذا الأمر، واقترح البعض أن يكون مولد الرسول بداية للتأريخ، بينما عارضه آخرون واقترحوا يوم وفاته، واقترح فريق ثالث اعتماد التقويم الفارسي أو الروماني، إلاّ أن الرأي استقر في النهاية على اعتماد الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة المنورة كنقطة انطلاق للتاريخ الإسلامي، وذلك لما قاله عمر بن الخطاب: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها».
يكمن هنا جوهر عظمة اتخاذ الهجرة النبوية منطلقًا للتاريخ، فهي تمثل حدثًا محوريًا غير مجرى التاريخ.
إن الهجرة ليست مجرد حدث تاريخي مضى، بل هي رمز للتغيير المستمر والبحث الدائم عن الحق. إنها تذكرنا بأن قمع الفكر ومحاولة الحَجْر عليه ليسا بالأمر الجديد، فالهجرة جاءت نتيجة لظروف قمع حرية التعبير، وتعذيب المؤمنين، والخوف من التغيير، والتشبث بالقديم دون دليل، فكانت الهجرة هي السبيل الوحيد لنجاة الفكرة. لقد اتخذ المؤمنون الصوت مركبًا، وصنعت الفكرة جناحًا، واقترحت النفوس العظيمة الهجرة حلًا للخلاص من الحَجْر والاعتساف، فكانت مكاسب الهجرة أعظم بكثير من خسائر الحَجْر.
هذا المعنى يوضح لنا أن الحَجْر لا يجدي نفعًا، وأن الحرية المنفلتة لا تساعد الفكرة على الانتشار والقبول.
للهجرة في عصرنا الحاضر معنى أعمق، فهي دعوة إلى البحث عن الذات الحقيقية التي ضاعت في زحمة الحياة المادية، إنها هجرة نحو التأمل، والمحاسبة الذاتية، والتدقيق في الأمور، فكم من هجرة يحتاجها الإنسان اليوم ليعبر الواقع المعيش ويصل إلى فهم أعمق للعالم، دون الوقوع في فخ الاستبداد أو الانزلاق في التحرر العبثي؟ إنها معادلة تحتاج إلى حكمة نبي، وصبر عابد، وبصيرة عالم.
يجب على الدعاة اليوم أن يدركوا أن الهجرة المادية لم تعد مجدية في عالم بات قرية صغيرة، فعليهم تطوير مفهوم الهجرة، واستيعاب معانيها، وإضفاء معنى جديد عليها يتناسب مع واقعنا المعاصر، والاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة لنشر الدعوة دون الحاجة إلى الانتقال الفعلي.
أرى أيضًا ضرورة استحداث رمز "ق. هـ" (قبل الهجرة) لتوثيق الأحداث التاريخية المهمة التي سبقت الهجرة النبوية، على غرار الرمز "ق. م" (قبل الميلاد) المستخدم في التقويم الميلادي.
وكل عام وأنتم بألف خير.